كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فبعث الله تعالى إلياس عليه السلام إلى أُجب الملك وقومه وأمره أن يخبرهم أنّ الله سبحانه قد غضب لوليّه حين قتلوه بين أظهرهم ظلمًا، وآلى على نفسه أنهما إن لم يتوبا عن صنعهما ولم يردّا الجنينة على ورثة مزدكي أن يهلكهما يعني أجب وامرأته في جوف الجنينة أشرّ ما يكونان بسفك دميهما ثم يدعهما جيفتين ملقاتين فيها حتى تتعرى عظامهما من لحومهما ولا يمتّعان بها إلاّ قليلًا.
قال: فجاء إلياس وأخبره بما أوحى الله تعالى إليه في أمره وأمر امرأته والجنينة، فلما سمع الملك ذلك اشتد غضبه عليه ثم قال له: يا إلياس والله ما أرى ما تدعو إليه إلاّ باطلًا، والله ما أرى فلانًا وفلانًا، سمى ملوكًا منهم قد عبدوا الأوثان- إلاّ على مثل ما نحن عليه يأكلون ويشربون ويتنعّمون مملكين ما ينقص من دنياهم ولا من أمرهم الذي تزعم أنه باطل، وما نرى لكم علينا ولا عليهم من فضل.
قال: وهمّ الملك بتعذيب إلياس وقتله، فلما سمع إلياس ذلك وأحسّ بالشر، رفضه وخرج عنه، فلحق بشواهق الجبال، وعاد الملك إلى عبادة بعل. فارتقى إلياس أصعب جبل وأشمخه، فدخل مغارة فيه، فيقال: إنه قد بقي فيه سبع سنين شريدًا طريدًا خائفًا يأوي إلى الشعاب والكهوف يأكل من نبات الأرض وثمار الشجر، وهم في طلبه قد وضعوا عليه العيون، يتوقعون أخباره ويجتهدون في أخذه، والله سبحانه وتعالى يستره ويدفع عنه. فلما تمّ له سبع سنين أذن الله تعالى في إظهاره عليهم وشفاء غيظه منهم، فأمرض الله سبحانه ابنًا لأجب وكان أحبّ ولدِه إليه، وأعزهم عليه، وأشبههم به فأدنف حتى يئس منه، فدعا صنمه بعلًا وكانوا قد فتنوا ببعل وعظموه، حتى جعلوا له أربعمئة سادن فوكلوهم به وجعلوهم أُمناءه، فكان الشيطان يدخل في جوف الصّنم فيتكلّم بأنواع الكلام، وأربعمئة يصغون بآذانهم إلى ما يقول الشيطان، ويوسوس إليهم الشيطان بشريعة من الضلال فيكتبونها للناس فيعملون بها، ويسمونهم الأنبياء.
فلما اشتدّ مرض ابن الملك طلب إليهم الملك أن يتشفعوه إلى بعل ويطلبوا لابنه من قِبَلِهِ الشفاء والعافية فدعوه فلم يجبهم، ومنع الله بقدرته الشيطان عن صنمهم فلم يمكنه الولوج في جوفه ولا الكلام، وهم مجتهدون في التضرع إليه وهو لا يزداد إلاّ خمودا. فلما طال عليهم ذلك قالوا لأجب: إنّ في ناحية الشام آلهة أُخرى، وهي في العظم مثل إلهِك، فابعث إليها الأنبياء ليشفعوا لك إليها، فلعلّها أن تشفع لك إلى إلهك بعل، فإنه غضبان عليك، ولولا غضبه عليك لكان قد أجابك وشفى لك ابنك.
قال أجب: ومن أجل ماذا غضب عليّ، وأنا أطيعه وأطلب رضاه منذ كنت، لم أسخطه ساعة قط؟ قالوا: من أجل أنك لم تقتل إلياس، وفرطت فيه حتى نجا سليمًا، وهو كافرٌ بإلهك، يعبد غيره، فذلك الذي أغضبه عليك. قال أُجب: وكيف لي أن أقتل إلياس يومي هذا، وأنا مشغول عن طلبه بوجع ابني؟ فليس لإلياس مطلب، ولا يعرف له موضع فيقصد، فلو عوفي ابني تفرّغت لطلبه، ولم يكن لي همّ ولا شغل غيره حتى آخذه فاقتله، فأُريح إلهي منه وأُرضيه.
قال: ثم إنه بعث أنبياءه الأربعمئة ليشفعوا إلى الآلهة. التي بالشام، ويسألوها أن تشفع إلى صنم الملك ليشفي ابنه. فانطلقوا حتى إذا كانوا بحيال الجبل الذي فيه إلياس، أوحى الله سبحانه إلى إلياس أن يهبط من الجبل ويعارضهم ويستوقفهم ويكلمهم، وقال له: لا تخف فإني سأصرف عنك شرّهم، وأُلقي الرّعب في قلوبهم فنزل إلياس من الجبل، فلما لقيهم استوقفهم، فلما وقفوا، قال لهم: إنّ الله سبحانه أرسلني إليكم وإلى مَن وراءكم، فاسمعوا أيُّها القوم رسالة ربكم لتبلغوا صاحبكم، فارجعوا إليه وقولوا له: إنّ الله يقول لك: ألست تعلم يا أجب أنّي أنا الله لا إله إلاّ أنا إله بني إسرائيل الذي خلقهم ورزقهم وأحياهم وأماتهم، أفجهلك وقلة علمك حملك على أن تشرك بي، وتطلب الشفاء لابنك من غيري ممن لا يملكون لأنفسهم شيئًا إلاّ ماشئت؟ إنّي حلفت باسمي لأغيظنّك في ابنك ولأُميتنه في فوره هذا حتى تعلم أنّ أحدًا لا يملك له شيئًا دوني.
فلما قال لهم هذا رجعوا، وقد مُلئوا منه رعبًا، فلما صاروا إلى الملك قالوا له ذلك وأخبروه بأن إلياس انحط عليهم وهو رجل نحيف طويل، قد قشف وقحل وتمعط شعره وتقشر جلده، عليه جبّة من شعر وعباءة قد خللها على صدره بخلال، فاستوقفنا، فلما صار معنا قذفت له في قلوبنا الهيبة والرعب، وانقطعت ألسنتنا، ونحن في هذا العدد الكبير وهو واحد، فلم نقدر على أن نكلّمه ونراجعه ونملأ أعيننا منه، حتى رجعنا إليك، وقصّوا عليه كلام إلياس، فقال أجب: لا ينتفع بالحياة ما كان إلياس حيًّا، ما الذي منعكم أن تبطشوا به حين لقيتموه وتوثقوه وتأتوني به، وأنتم تعلمون أنه طلبي وعدوّي؟ فقالوا: قد أخبرناك ما الذي منعنا منه ومن كلامه والبطش به. قال أجب: ما يُطاق إذن إلياس إلاّ بالمكر والخديعة.
فقيّض له خمسين رجلًا من قومه من ذوي القوة والبأس، وعهد إليهم عهده وأمرهم بالاحتيال عليه والاعتناء به، وأن يطمعوه في أنهم قد آمنوا به هم ومن وراءهم ليستنيم إليهم ويغترّ بهم فيمكنهم من نفسه، فيأتوا به ملكهم. فانطلقوا حتى ارتقوا ذلك الجبل الذي فيه إلياس عليه السلام، ثم تفرّقوا فيه وهم ينادونه بأعلى أصواتهم، ويقولون: يا نبي الله ابرز لنا وأشرف بنفسك فإنا قد آمنا بك وصدقناك، وملكنا أُجب وجميع قومنا، وأنت آمن على نفسك، وجميع بني إسرائيل يقرؤون عليك السلام ويقولون: قد بلّغتنا رسالة ربك وعرفنا ما قلت وآمنا بك، وأجبناك إلى ما دعوتنا فهلّم إلينا، فأنت نبينا ورسول ربنا، فأقم بين أظهرنا واحكم فينا، فإنا ننقاد لما أمرتنا وننتهي عما نهيتنا، وليس يسعك أن تتخلف عنا مع إيماننا وطاعتنا، فتداركنا وارجع إلينا، وكلّ هذا كان منهم مماكرة وخديعة.
فلما سمع إلياس مقالتهم وقعت بقلبه، وطمع في إيمانهم وخاف الله، وأشفق من سخطه إن هو لم يظهر ولم يجبهم بعد الذي سمع منهم، فلمّا أجمع على أن يبرز لهم، رجع إلى نفسه فقال: لو أنّي دعوت الله سبحانه وتعالى وسألته أن يعلمني ما في أنفسهم ويطلعني على حقيقة أمرهم، وذلك أنّ الله سبحانه وفقه وألهمه التوقّف والدعاء والتحرز، فقال: اللهم إن كانوا صادقين فيما يقولون فائذن لي في البروز إليهم، وإن كانوا كاذبين فاكفنيهم وارمهم بنار تحرقهم.
فما استتمّ قوله حتى حصبوا بالنار من فوقهم أجمعين.
قال: وبلغ أجب وقومه الخبر فلم يرتدع من همه بالسوء، واحتال ثانيًا في أمر إلياس، وقيّض فئة أُخرى مثل عدد أُولئك، أقوى منهم وأمكن من الحيلة والرأي فأقبلوا حتى توغلوا في تلك الجبال. متفرقين، وجعلوا ينادون: يا نبي الله إنا نعوذ بالله وبك من غضب الله وسطواته، إنا لسنا كالذين أتوك قبلنا، إنّ أولئك فرقة نافقوا وخالفوا، فصاروا إليك ليكيدوا بك من غير رأينا ولا علمنا، وذلك أنهم حسدونا وحسدوك وخرجوا إليك سرًا، ولو علمنا بهم لقتلناهم ولكفيناك مؤونتهم، والآن فقد كفاك ربك أمرهم وأهلكهم بسوء نياتهم وانتقم دونك منهم. فلما سمع إلياس مقالتهم دعا الله بدعوته الأُولى، فأمطر عليهم النار فاحترقوا عن آخرهم.
وفي كل ذلك ابن الملك في البلاء الشديد من وجعه كما وعده الله سبحانه وتعالى على لسان نبيّه إلياس، لا يُقضى عليه فيموت ولا يُخفف عنه من عذابه، فلما سمع الملك بهلاك أصحابه ثانيًا إزداد غضبًا إلى غضب، وأراد أن يخرج في طلب إلياس بنفسه إلاّ أنه شغله عن ذلك مرض ابنه، فلم يمكنه، فوجه نحو إلياس الكاتب المؤمن الذي هو كاتب امرأته، رجاء أن يأنس به إلياس، فينزل معه وأظهر للكاتب أنه لا يريد بإلياس سوءًا، وإنما أظهر له ذلك لما اطّلع عليه من إيمانه، وأنّ الملك مع اطلاعه على إيمانه كان مغضيًا عنه فيه؛ لما هو عليه من الأمانة والكفاءة والحكمة وسداد الرأي والبصر بالأُمور فلما وجّهه نحوه أرسل معه فئة من أصحابه، وأوعز إليهم دون الكاتب أن يوثقوا إلياس ويأتوه به إن أراد التخلف عنهم، وإن جاء مع الكاتب واثقًا به آنسًا لمكانته لم يوحشوه ولم يرّوعوه. ثم أظهر للكاتب الإنابة، وقال له: إنه قد آن لي أن أتوب واتّعظ، وقد أصابتنا بلايا من حريق أصحابنا، والبلاء الذي فيه ابني، وقد عرفت أنّ ذلك بدعوة إلياس، ولست آمن أن يدعو على جميع من بقي منا فنهلك بدعوته، فانطلق لنا إليه وأخبره أنا قد تبنا وأنبنا، وإنّه لا يصلحنا في توبتنا، وما نُريد من رضا ربنا وخلع أصنامنا إلاّ أن يكون إلياس بين أظهرنا، يأمرنا وينهانا، ويخبرنا بما يُرضي ربنا.
قال: وأمر قومه فاعتزلوا الأصنام وقال له: أخبر إلياس أنّا قد خلعنا آلهتنا التي كنا نعبد وأرجأنا أمرها حتى ينزل إلياس إلينا فيكون هو الذي يحرقها ويهلكها، وكان ذلك مكرًا من الملك. فانطلق الكاتب والفئة حتى علا الجبل الذي فيه إلياس، ثم ناداه، فعرف إلياس صوته، فتاقت نفسه إليه وأنس به، وكان مشتاقًا إلى لقائه.
قال: وأوحى الله سبحانه وتعالى إلى إلياس أن انزل إلى أخيك الصالح، فالقه وجدد العهد به. فنزل إليه وسلم عليه وصافحه وقال له: ما الخبر؟ فقال المؤمن: إنه بعثني إليك هذا الجبار الطاغية وقومه، ثم قصّ عليه ما قالوا، ثم قال له: إني لخائف إن رجعت إليه ولست معي أن يقتلني، فمرني بما شئت أفعله وأنتهي إليه، وإن شئت انقطعت إليك فكنت معك وتركته، وإن شئت جاهدته معك، وإن شئت ترسلني إليه بما تحبّ فأبلغه رسالتك، وإن شئت دعوت ربك فجعل لنا من أمرنا فرجًا ومخرجًا.
قال: فأوحى الله سبحانه إلى إلياس أنّ كلّ شيء جاءك منهم مكر وكذب ليظفروا بك، وإنّ أجب إن أخبرته رسله أنّك قد لقيت هذا الرجل ولم يأتِ بك إليه اتهمه وعرف أنه قد داهن في أمرك فلم يأمن أن يقتله فانطلق معه، فإنّ انطلاقك معه عذره وبراءته عند أجبّ، وإنّي سأشغل عنكما أجب، فأضاعف على ابنه البلاء حتى لا يكون له همّ غيره ثم أُميته على شرّ حال، فإذا مات هو فارجع عنه ولا تقم.
قال: فانطلق معهم حتى قدموا على أجب فلما قدموا عليه شدّد الله الوجع على ابنه وأخذ الموت يكظمه فشغل الله بذلك أجب وأصحابه عن إلياس، ورجع إلياس سالمًا إلى مكانه. فلما مات ابن أُجب، وفرغوا من أمره وقلّ جزعه، انتبه لإلياس وسأل عنه الكاتب الذي جاء به، فقال: ليس لي به علم وذلك أنه شغلني عنه موت ابنك والجزع عليه ولم أكن أحسبك إلاّ وقد استوثقت منه. فأضرب عنه أجب وتركه لما كان فيه من الجزع على ابنه.
فلما طال الأمر على إلياس ملّ المكث في الجبال والمقام بها واشتاق إلى العمران والناس، نزل من الجبل وانطلق حتى نزل بامرأة من بني إسرائيل، وهي أُمّ يونس بن متّى ذي النون، فاستخفى عندها ستة أشهر ويونس بن متى يومئذ مولود يرضع، وكانت أُمّ يونس تخدمه بنفسها وتواسيه بذات يدها ولا تدّخر عنه كرامة تقدر عليها.
قال: ثم إنّ إلياس سئم ضيق البيوت بعد تعوده فسحة الجبال دوحها فأحبّ اللّحوق بالجبال، فخرج وعاد إلى مكانه، فجزعت أُمّ يونس لفراقه وأوحشها فقده ثم لم تلبث إلاّ يسيرًا حتى مات ابنها حين فطمته، فعظمت مصيبتها فيه، فخرجت في طلب إلياس فلم تزل ترقى الجبال وتطوف فيها حتى عثرت عليه ووجدته فقالت له: إني قد فجعت بعدك بموت ابني فعظمت فيه مصيبتي واشتد لفقده بلائي وليس لي ولد غيره فارحمني وادع ربك جل جلاله ليُحيي لي ابني ويجبر مصيبتي، وإني قد تركته مسجّى لم أدفنه، وقد أخفيت مكانه. فقال لها إلياس: ليس هذا مما أُمرت به، وإنما أنا عبدٌ مأمور أعمل بما يأمرني ربي، ولم يأمرني بهذا فجزعت المرأة وتضرعت، فأعطف الله سبحانه قلب إلياس لها، فقال لها: ومتى مات ابنك؟ قالت: منذ سبعة أيام.
فانطلق إلياس معها وسار سبعة أُخرى حتى انتهى إلى منزلها فوجد ابنها يونس بن متّي ميتًا منذ أربعة عشر يومًا، فتوضأ وصلّى ودعا فأحيا الله يونس بن متّي بدعوة إلياس. فلما عاش وجلس، وثب إلياس وانصرف وتركه وعاد إلى موضع ما كان فيه. فلما طال عصيان قومه ضاق بذلك إلياس ذرعًا وأجهده البلاء، قال: فأوحى الله سبحانه إليه بعد سبع سنين وهو خائف مجهود: يا إلياس ما هذا الحزن والجزع الذي أنت فيه؟ ألست أميني على وحيي، وحجّتي في أرضي، وصفوتي من خلقي؟ فسلني أُعطك فإني ذو الرحمة الواسعة والفضل العظيم قال: تميتني فتلحقني بآبائي فإني قد مللت بني إسرائيل وملّوني، وأبغضتهم فيك وأبغضوني. فأوحى الله سبحانه إليه: يا إلياس، ما هذا باليوم الذي أُعري منك الأرض وأهلها، وإنما قوامها وصلاحها بك وأشباهك وإن كنتم قليلًا، ولكن تسألني فأُعطيك.
قال إلياس: فإن لم تمتني يا إلهي فأعطني ثاري من بني إسرائيل. قال الله سبحانه: وأي شيء تريد أن أُعطيك يا إلياس؟
قال: تمكنّني من خزائن السماء سبع سنين فلا تنشأ عليهم سحابة إلاّ بدعوتي، ولا يمطر عليهم سبع سنين قطرة إلاّ بشفاعتي، فإنهم لا يذلّهم إلاّ ذلك. قال الله سبحانه وتعالى: يا إلياس، أنا أرحم بخلقي من ذلك وإن كانوا ظالمين. قال: فستّ سنين. قال: أنا أرحم بخلقي من ذلك وإن كانوا ظالمين.
قال: فخمس سنين. قال: أنا أرحم بخلقي من ذلك وإن كانوا ظالمين، ولكنّي أُعطيك ثأرك ثلاث سنين، أجعل خزائن المطر بيدك، ولا تنشأ عليهم سحابة إلاّ بدعوتك، ولا ينزل عليهم قطرة إلاّ بشفاعتك. قال إلياس: فيأي شيء أعيش؟
قال: أُسخرّ لك جنسًا من الطير ينقل إليك طعامك وشرابك من الريف والأرض التي لم تقحط.
قال إلياس: قد رضيت.
قال: فأمسك الله عنهم المطر حتى هلكت الماشية والدواب والهوام والشجر، وجهد الناس جُهدًا شديدًا، وإلياس على حالته مستخف من قومه يوضع له الرزق حيثما كان، وقد عرفه بذلك قومه، فكانوا إذا وجدوا ريح الخبز في البيت قالوا: لقد دخل إلياس هذا المكان، فطلبوه ولقي منهم أهل ذلك المنزل شيئًا.
قال ابن عباس: أصاب بني إسرائيل ثلاثَ سنين القحطُ، فمرّ إلياس بعجوز، فقال لها: هل عندك طعام؟ فقالت: نعم، شيء من دقيق وزيت قليل.
قال: فدعا بهما ودعا فيه بالبركة ومسَّه حتى ملأ جرابها دقيقًا وملأ خوابيها زيتًا، فلمّا رأى بنو إسرائيل ذلك عندها قالوا: من أين لك هذا؟ قالت: مرّ بي رجل من حاله كذا وكذا فوصفته بصفته، فعرفوه وقالوا: ذلك إلياس، فطلبوه فوجدوه فهرب منهم.
ثم إنه آوى ليلة إلى بيت امرأة من بني إسرائيل لها ابن يقال له: اليسع بن أخطوب وكان به ضر، فآوته وأخفت أمره، فدعا له فعوفي من الضر الذي كان به، واتّبع اليسع إلياس فآمن به وصدّقه ولزمه، وكان يذهب به حيثما ذهب، وكان إلياس قد أسنّ وكبر، وكان اليسع غلامًا شابًا.
ثم إن الله سبحانه أوحى إلى إلياس: إنك قد أهلكت كثيرًا من الخلق ممن لم يعصِ سوى بني إسرائيل من البهائم والدواب والطير والهوام والشجر يحبس المطر من بني إسرائيل. فيزعمون والله أعلم أنّ إلياس قال: يا ربّ دعني أكن أنا الذي أدعو لهم به، وآتيهم بالفرج مما هم فيه من البلاء الذي أصابهم لعلّهم أن يرجعوا وينزعوا عمّا هم عليه من عبادة غيرك. قيل له: نعم فجاء إلياس إلى بني إسرائيل فقال لهم: إنكم قد هلكتم جوعًا وجهدًا، وهلكت البهائم والدواب والطير والهوام والشجر لخطاياكم، وإنكم على باطل وغرور، فإن كنتم تحبون أن تعلموا ذلك فاخرجوا بأصنامكم تلك فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون، وإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم، ودعوت الله ففرج عنكم ما أنتم فيه من البلاء قالوا: أنصفت فخرجوا بأوثانهم فدعوها فلم تستجب لهم ولم يفرّج عنهم ما كانوا فيه من البلاء، ثم قالوا لإلياس عليه السلام: يا إلياس إنا قد هلكنا فادع الله لنا. فدعا لهم إلياس ومعه اليسع بالفرج عنهم مما هم فيه، وأن يسقوا، فخرجت سحابة مثل الترس على ظهر البحر، وهم ينظرون، فأقبلت نحوهم وطبقت الآفاق، ثم أرسل الله تعالى عليهم المطر وأغاثهم وحييت بلادهم. فلما كشف الله عنهم الضر نقضوا العهد، ولم ينزغوا عن كفرهم، ولم يقلعوا عن ضلالتهم، وأقاموا على حيث ما كانوا عليه، فلما رأى إلياس ذلك دعا ربه عز وجل أن يريحه منهم، فقيل له فيما يزعمون انظر يوم كذا وكذا، فاخرج فيه إلى موضع كذا، فما جاءك من شيء فاركبه ولا تهبه.